فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.
هذا وإن كان خارجًا مخرج التخيير فهو على وجه التهديد والوعيد، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم لا ينفعون الله بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم.
الثاني: فمن شاء الجنة فليؤمن، ومن شاء النار فليكفر، قاله ابن عباس.
الثالث: فمن شاء فليعرِّض نفسه للجنة بالإيمان، ومن شاء فليعرض نفسه للنار بالكفر.
{إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن سرادقها حائط من النار يطيف بهم، قاله ابن عباس.
الثاني: هو دخانها ولهيبها قبل وصولهم إليها، وهو الذي قال الله تعالى فيه {إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب} [المرسلات: 30-31]. قاله قتادة.
الثالث: أنه البحر المحيط بالدنيا. روى يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر هو جهنم» ثم تلا {نارًا أحاط بهم سرادقها} ثم قال: «والله لا أدخلها أبدًا ما دمت حيًا ولا يصيبني منها قطرة» والسرادق فارسي معرب، واصله سرادر.
{وإن يستغيثوا يُغَاثوا بماءٍ كالمهل} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أنه القيح والدم، قاله مجاهد.
الثاني: دردي الزيت، قاله ابن عباس.
الثالث: أنه كل شيء أذيب حتى انماع؛ قاله ابن مسعود.
الرابع: هو الذي قد انتهى حره، قاله سعيد بن جبير، قال الشاعر:
شاب بالماء منه مهلًا كريهًا ** ثم علّ المتون بعد النهال

وجعل ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاستغاثة.
{بئس الشراب وساءت مرتفقًا} في المرتفق أربعة تأويلات:
أحدها: معناه مجتمعًا، قاله مجاهد، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة.
الثاني: منزلًا قاله الكلبي، مأخوذ من الارتفاق.
الثالث: أنه من الرفق.
الرابع: أنه من المتكأ مضاف إلى المرفق، ومنه قول أبي ذؤيب:
نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ الليْلَ مُرْتَفِقًا ** كَأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ

اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وقل الحق} الآية، المعنى وقل لهم يا محمد هذا {الحق من ربكم} أي هذا القرآن، أو هذا الإعراض عنكم، وترك الطاعة لكم، وصبر النفس مع المؤمنين، وقرأ قعنب وأبو السمال: {وقلَ} بفتح اللام قال أبو حاتم وذلك رديء في العربية، وقوله: {فمن شاء فليؤمن} الآية توعد وتهديد، أي فليختر كل امرىء لنفسه ما يجده غدًا عند الله عز وجل، وتأولت فرقة {فمن شاء} الله إيمانه {فليؤمن ومن شاء} الله كفره {فليكفر}، وهو متوجه، أي فحقه الإيمان وحقه الكفر، ثم عبر عن ذلك بلفظ الأمر إلزمًا وتحريضًا، ومن حيث للإنسان في ذلك التكسب الذي به يتعلق ثواب الإيمان وعقاب الكفر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي: {فلِيؤمن} {ولِيكفر} بكسر اللامين {وأعتدنا} مأخوذ من العتاد وهو الشيء المعد الحاضر والسرادق وهو الجدار المحيط كالحجرة التي تدور وتحيط الفسطاط، وقد تكون من نوع الفسطاط أديمًا أو ثوبًا أو نحوه، ومنه قول رؤبة: الرجز:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ** سرادق والمجد عليك ممدود

ومنه قول سلامة بن جندل: الطويل:
هو المولج النعمان بيتا سماؤه ** صدور الفيول بعد بيت مسردق

وقال الزجاج السرادق كل ما أحاط بشيء.
قال القاضي أبو محمد: وهو عندي أخص مما قال الزجاج، واختلف في سرادق النار فقال ابن عباس {سرادقها} حائط من نار وقالت فرقة {سرادقها} دخان يحيط بالكفار، وقوله تعالى: {انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب} [المرسلات: 30] وقالت فرقة الإحاطة هي في الدنيا، والسرادق البحر، وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق يعلى بن أمية، فيجيء قوله تعالى: {أحاط بهم} أي بالبشر ذكر الطبري الحديث عن يعلى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البحر هي جهنم» وتلا هذه الآية: ثم قال: «والله لا أدخله أبدًا أو ما دمت حيًا» وروي عنه أيضًا عليه السلام من طريق أبي سعيد الخدري أنه قال: «سرادق النار أربعة جدور، كتف عرض كل جدار مسيرة أربعين سنة»، وقوله عز وجل: {يغاثوا} أي يكون لهم مقام الغوث وهذا نحو قول الشاعر: الوافر:
تحية بينهم ضرب وجيع

أي القائم مقام التحية والمهل قال أبو سعيد عن النبي عليه السلام هو دردي الزيت إذا انتهى حده، وقالت فرقة هو كل مائع سخن حتى انتهى حره، وقال ابن مسعود وغيره هو كل ما أذيب من ذهب أو فضة أو رصاص أو نحو هذا من الفلز حتى يميع، وروي أن عبد الله بن مسعود أهديت إليه سقاية من ذهب أو فضة فأمر بها فأذيبت حتى تميعت وتلونت ألوانًا ثم دعا من ببابه من أهل الكوفة، فقال ما رأيت في الدنيا شيئًا أدنى شبهًا بالمهل من هذا، يريد أدنى شبهًا بشراب أهل النار، وقالت فرقة المهل: الصديد والدم إذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر الصديق في الكفن: «إنما هو للمهلة»، يريد لما يسيل من الميت في قبره، ويقوى هذا بقوله: {ويسقى من ماء صديد} [إبراهيم: 16] الآية. وقوله: {يشوي الوجوه} روي في معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تقرب الشربة من الكافر، فإذا دنت منه تكرهها، فإذا دنت أكثر شوت وجهه، وسقطت فيها فروة وجهه، وإذا شرب تقطعت أمعاؤه» والمرتفق، الشيء الذي يرتفق به أي يطلب رفقه، والمرتفق الذي هو المتكأ أخص من هذا الذي في الآية، لأنه في شيء واحد من معنى الرفق، على أن الطبري قد فسر الآية به، والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره، وقال مجاهد المرتفق المجتمع كأنه ذهب بها إلى موضع الرفاقة، ومنه الرفقة، وهذا كله راجع إلى الرفق، وأنكر الطبري أن يعرف لقول مجاهد معنى، والقول بين الوجه، والله المعين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقل الحقِ مِنْ ربِّكم}.
قال الزجاج: المعنى: وقل الذي أتيتكم به، الحقُّ من ربِّكم.
قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: فمن شاء الله فليؤمن، روي عن ابن عباس.
والثاني: أنه وعيد وإِنذار، وليس بأمر، قاله الزجاج.
والثالث: أن معناه: لا تنفعون الله بإيمانكم، ولا تضرُونه بكفركم، قاله الماوردي.
وقال بعضهم: هذا إِظهار للغنى، لا إِطلاق في الكفر.
قوله تعالى: {إِنا أعتدنا} أي: هيَّأنا، وأعددنا، وقد شرحناه في قوله: {وأعتدتْ لهن متَّكأً} [يوسف 31].
فأما الظالمون، فقال المفسرون: هم الكافرون.
وأما السُّرادِق، فقال الزجاج: السُّرادِق: كلُّ ما أحاط بشيء، نحو الشُّقَّة في المِضْرَب، أو الحائط المشتمل على الشيء.
وقال ابن قتيبة: السُّرادِق: الحُجرة التي تكون حول الفسطاط.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: السُّرادق فارسي معرَّب، وأصله بالفارسية سَرَادَارْ، وهو الدِّهليز، قال الفرزدق:
تَمَنَّيْتَهُمْ حتى إِذا ما لَقِيتَهم ** تَركتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرَادِقا

وفي المراد بهذا السُّرادق قولان.
أحدهما: أنه سُرادق من نار، قاله ابن عباس.
روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لِسُرادِق النار أربعةُ جُدُرٍ كُثُفٌ، كلُّ جدار منها مسيرة أربعين سنة» وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس، قال: السرادق: لسان من النار، يخرج من النار فيحيط بهم حتى يفرغ من حسابهم.
والثاني: أنه دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الظِّل ذو ثلاث شعب الذي ذكره الله تعالى في [المرسلات: 30]، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: {وإِن يستغيثوا} أي: مما هم فيه من العذاب وشدة العطش {يُغاثوا بماءٍ كالمُهل} وفيه سبعة أقوال.
أحدها: أنه ماءٌ غليظٌ كدُرْدِيِّ الزيت، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه كل شيء أذيب حتى انماع، قاله ابن مسعود.
وقال أبو عبيدة، والزجّاج: كل شيء أذبته من نحاس أو رصاص أو نحو ذلك، فهول مُهل.
والثالث: قيح ودم أسود كعكر الزيت، قاله مجاهد.
والرابع: أنه الفضة والرصاص يذابان، روي عن مجاهد أيضًا.
والخامس: أنه الذي انتهى حَرُّه، قاله سعيد بن جبير.
والسادس: أنه الصَّديد، ذكره ابن الأنباري.
قال مُغيث بن سُمي: هذا الماء هو ما يسيل من عَرَق أهل الموقف في الآخرة وبكائهم، وما يجري منهم من دم وقيح، يسيل ذلك إِلى وادٍ في جهنم، فتطبخه جهنم، فيكون أول ما يُغاث به أهل النار.
والسابع: أنه الرماد الذي يُنفض عن الخُبزة إِذا خرجت من التَّنُّور، حكاه ابن الأنباري.
قوله تعالى: {يشوي الوجوه} قال المفسرون: إِذا قرَّبه إِليه سقطت فروة وجهه فيه.
ثم ذمَّه، فقال: {بئس الشراب وساءت} النار {مُرْتَفَقًا} وفيه خمسة أقوال.
أحدها: منزلًا، قاله ابن عباس.
والثاني: مجتمعًا، قاله مجاهد.
والثالث: متَّكأً، قاله أبو عبيدة، وأنشد لأبي ذؤيب:
إِني أرِقْت فبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا ** كأنَّ عَيْنِيَ فِيها الصَّابُ مَذْبُوحُ

وذبحه: انفجاره؛ قال الزجاج: {مرتفقًا} منصوب على التمييز؛ ومعنى مرتفقًا: متَّكأً على المِرفق.
والرابع: ساءت مجلسًا؛ قاله ابن قتيبة.
والخامس: ساءت مطلبًا للرفق، لأن من طلب رِفقًا من جهتها، عَدِمه، ذكره ابن الأنباري.
ومعاني هذه الأقوال تتقارب.
وأصل المِرفق في اللغة: ما يُرتَفق به. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
{الحقّ} رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق.
وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله: {من ربكم}.
ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس! من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إليّ من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفًا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويًّا غنيًّا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا.
وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد.
أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.
قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أي أعددنا.
{لِلظَّالِمِينَ} أي للكافرين الجاحدين.
{نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال الجوهري: السُّرادق واحد السُّرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار.
وكل بيت من كرسف فهو سرادق.
قال رؤبة:
يا حَكَمُ بنَ المنذر بن الجارُودْ ** سُرادِقُ المجد عليك مَمْدُودْ

يقال: بيت مُسردَق.
وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفِيَلة:
هو المْدخِل النعمانَ بيتًا سماؤه ** صُدورُ الفيولِ بعد بَيتٍ مَسَرْدَقِ

وقال ابن الأعرابي: {سرادقها} سورها.
وعن ابن عباس: حائط من نار.
الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة.
القتبيّ: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط.
وقاله ابن عزيز.
وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة والمرسلات حيث يقول: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30] وقوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43] قاله قتادة.